ريح الحشائش والنفط: بين الإثارة القصصية والإثراء الأنثروبولوجي - عرب فايف

0 تعليق ارسل طباعة
اِعْتَدْتُ أن أبدأ قراءة الكتب بالنظر في عناوينها. أقف عند العنوان، أتأمله وأدير من خلاله التوقعات حول محتوى الكتاب، حتى أُهَيِّئَ ذهني لقراءته؛ فالعنوان المتميز -في نظري- ينبغي أن يختصر المحتوى في كلمات قليلة، تجمع بين الدقة في الوصف والجاذبية. وقد بَـدَا الزميل الجميل الأستاذ فهد الأحمري كَـرَسَّامٍ بارعٍ حين اختارَ «ريح الحشائش والنفط» عنوانًا للسيرة الروائية التي تحكي تجربته السردية لجيلٍ وطني عاش حقبة زمنية في حقول الزراعة، ثم انتقل منها إلى حقول النفط، ولكم أن تتصوروا هذه القفزة الهائلة، التي تمثّلت مسيرتها وسيرتها في شخصية «تاهم» بطل الرواية، تلك الشخصية التي اتخذها كاتبنا المبدع مسرحًا يَعرِضُ من خلالها مراحل حياته الأسرية والمهنية والاجتماعية.

أضْفَى الكاتبُ رمزيةً على العنوان سابِكًا المعنى في ثلاثة أسماء: «ريح الحشائش والنفط»، وهي أسماء جامعة مانعة، لكل منها مدلولها العميق. بل إنه ليُدهشُ القارئَ حين يَصلُ بين الأسماء الثلاثة برباط التعريف بالإضافة، وحرف الواو الذي يعطف الزمان على الزمان والمكان على المكان، وكأنه يخبن المسافات ليجعل الزمان والمكان نسيجًا دقيق التفاصيل ذا صورة مكثفة المعاني ساحرة للبصر. وقفت عند العنوان، وتأملته، ولا أدّعي أنّي نجحت في سبر أغواره، ليس لشك في عمقه، لكن لأن المحتوى فاق توقعاتي.

إنّ القراءة -في حقيقتها- ليست سلامة نطق الكلمات والسرعة في المرور عليها، بل هي استيعاب مضامين الجُمل المكتوبة فرادى ومجموعات، أي الفَهْم المستوعب لمعاني الجُمَل المباشِرة، ولتلك المعاني المتخفيّة بين الجُمل، وأفْضَلُ من ذلك قدرةُ الفَهْم على اقتناص المعاني الكامنةِ وراء الجُمل، وهذا الأخير هو شرط استدامة الأثر، فهو الهدف الذي من أجله ينبغي أن يكتب الكاتب؛ ولكَم نجح فهد الأحمري في هذا وهو ينتقي الكلمات وينسج الجمل في سيرته الروائية «ريح الحشائش والنفط».

حين كان يعيش «تاهم» زمان ومكان الحشائش أخذني معه في رحلة مدهشة إلى الثقافة الجنوبية التهامية، وبرع في وصف تفاصيلها، ليلها ونهارها، شروق الشمس بها وغروبها، جبالها وأوديتها، هدوئها وصخبها، رخائها وشظفها، أطفالها وفتيانها وكبارها، ثم مر بي على الثقافة المتمازجة، العسيرية النجدية، حينما التحق والده بالعمل العسكري وجلب أسرته القروية لتجاور الأسرة البدوية القادمة من عالية نجد، لتعيش الأسرتان معًا بانسجام، بالرغم من الاختلافات الثقافية في اللباس والحديث وإعداد الطعام، قبل أن يبحر بي في ثقافة الرياض، المدينة العاصمة للدولة الفتية، في بدايات التنمية وبوادر الازدهار الاقتصادي، واكتساء النفوس بالتفاؤل وهي تلمس نعمة الوطن الآمن المعطاء، تمسي على خبر مشروع تنموي وتصحو على خبر صباحي أجمل من الخبر الذي باتت وهي سعيدة به.

انطلقت رحلة الحياة المهنية لصاحب السيرة الروائية في ثمانينيات القرن العشرين، متدربًا ثم ممارسًا، في الظهران شرقًا ثم في ينبع على الساحل الغربي للدولة القارة المملكة العربية السعودية، في أرامكو، شركة الزيت التي أضاءت للعالم كله وأمدّته بالطاقة لينعم بالحياة، وأحد أهم مكونات نموذج التنمية السعودي. لقد أجاد فهد الأحمري وصف أرامكو من الداخل: قيمها واحترافيتها، وكيف تصقل شخصيات موظفيها وتنقلهم إلى الاحترافية.

ولأنه اعتاد أن يكون فاعلًا في المشهد الثقافي السعودي، فقد استحضر فهد الأحمري ما وهبه الله من مقدرة تأملية، وحكى بعمق وموضوعية ما احتواه هذا السياق من أحداث وتحولات على مدى العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ثم العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من مرارة بعض تلك الأحداث وحدّة آثارها، فقد ظلت المملكة العربية السعودية صلبة، وما زالت تتسارع خطواتها في مضامير التنمية، وتقود دول العالم في آفاق الازدهار، ونحن في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

أجد نفسي محباً لكتب السير الروائية؛ حيث أرى فيها دروسًا من الحياة، ومعرفةً أنثروبولوجية بطبائع البشر وعاداتهم، وهي معرفةٌ جذّابةٌ بطبيعتها، خاصة حينما تمسّ الثقافة اللصيقة، التي عشتها في مراحل العمر المتتابعة. وتستهويني في كتب السير القصةُ نفسُها، إذْ تَشُدُنِي نحوَهَا بما تتضمنه من دراما وكوميديا وسردية ممتعة لمراحل الحياة، بل الحيوات المتنوعة داخلَها. إنّني أجد في هذه السيرة الروائية، الموسومة بـ«ريح الحشائش والنفط»، مثالًا وأنموذجًا للكتب الماتعة الشائقة الثرية بمحتواها. وهي إلى ذلك أيضاً مرجع أنثروبولوجي لكل مهتم بالتاريخ الاجتماعي والثقافي للمملكة العربية السعودية.


ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق