تخلي الولايات المتحدة عن أوروبا خطأ استراتيجي - عرب فايف

0 تعليق ارسل طباعة

تعد الولايات المتحدة على أعتاب مرحلة إعادة التفكير الأكثر جوهرية في سياستها الخارجية منذ عام 1945، ويبدو أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لديها القدرة على إعادة ضبط أولويات البلاد الاستراتيجية في الداخل والخارج. وبينما يوجد إجماع في واشنطن على ضرورة إعطاء الأولوية للصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ في استراتيجية الولايات المتحدة للمضي قدماً، فإن أساسيات مستقبل العلاقات الأميركية مع أوروبا أصبحت للمرة الأولى منذ قرن موضع نقاش.

كيف وصلنا إلى هنا؟ لفترة طويلة جداً كان المحيط الأطلسي يُنظر إليه على أنه حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأميركية، وكما هي الحال في علاقة استمرت عقوداً، فإن ما بدا واضحاً لفترة طويلة يحتاج إلى إعادة صياغة جديدة.

تاريخياً كان التزام أميركا بأوروبا يتعلق بأساسيات الجغرافيا السياسية، والولايات المتحدة قوة بحرية بامتياز، وتقع في نصف الكرة الأرضية المنفصل عن الكتلة الأرضية الأساسية بمحيطين، ومنذ أوائل القرن العشرين أصبح من المسلم به أن الوصول إلى الطرق البحرية الآمنة عبر المحيط الأطلسي وفي حالة الطوارئ الوطنية والسيطرة عليها يصب في المصلحة الوطنية التي لا تقبل الاختزال.

وقد ضمنت القدرة على القيام بذلك أمن الوطن الأميركي ونصف الكرة الأرضية الغربي، وعلى القدر نفسه من الأهمية ازدهار الأمة ونموها الاقتصادي.

جغرافيا سياسية ثابتة

في حين نمت أهمية المحيط الهادئ على مدى العقود الثلاثة الماضية، ظلت أوروبا بوابة أميركا إلى القارتين آسيا وأوروبا، ومصدر تحالفاتها الأساسية، وفي نهاية المطاف مهد تراثها الوطني والثقافي.

ويكفي أن نقول إنه خلال الصراعين العالميين الأخيرين خاضت الولايات المتحدة حرباً لمنع قوة واحدة من الهيمنة على أوروبا، وبعد الحرب العالمية الثانية ظلت الولايات المتحدة في أوروبا لضمان عدم تمكن الاتحاد السوفييتي، حليفها السابق في الحرب العالمية الثانية، من تحقيق ما سعت الإمبريالية الألمانية إلى تحقيقه في النصف الأول من القرن العشرين.

وكما لاحظ السياسي والأكاديمي البريطاني هالفورد ماكيندر ذات يوم، فإن الإنسان هو الذي يبدأ، ولكن الطبيعة هي التي تتحكم، ورغم صعود الدول وانحدارها في قوتها المطلقة والنسبية، سواء كانت ألمانيا في الماضي، أو الصين اليوم، فإن الجغرافيا السياسية تظل ثابتة. وكانت حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة لا تستطيع السماح لقوة معادية بالسيطرة على الموارد المشتركة لأوروبا صحيحة، ولاتزال صحيحة اليوم.

إن ضمان بقاء أوروبا على تحالف وثيق مع أميركا، مع الحد من النفوذ الصيني على القارة، يشكل الأساس لتوازن القوى العالمي العام لصالح الولايات المتحدة والديمقراطيات في جميع أنحاء العالم، سواء من الناحية الاقتصادية أو العسكرية. والأمر الأكثر أهمية هو أن المنافسة المتسارعة مع الصين على وجه التحديد هي التي تجعل الولايات المتحدة مضطرة إلى ضمان عدم انجراف حلفائها الأوروبيين إلى فلك الصين.

تحالف استراتيجي

والأمر لا يتعلق فقط بالناتج المحلي الإجمالي الكبير لأوروبا، ومواردها من القوى العاملة، والتكنولوجيا التي تدعم أميركا حالياً وتسمح لحلف شمال الأطلسي بتحقيق الأهداف الأميركية والأوروبية بكلفة مقبولة.

لكن الأمر الأكثر أهمية من الناحية الجيواستراتيجية هو أن أوروبا هي نقطة الدخول الاستراتيجية التي تسمح للولايات المتحدة بإبراز قوتها في العديد من المسارح الرئيسة، ومن دون تحالفها مع أوروبا فإن الولايات المتحدة ستعود إلى موقعها في نصف الكرة الأرضية الآخر الذي احتلته في السنوات الأولى من تاريخها، حيث انتقلت من الزراعة إلى الاقتصاد الصناعي، بينما توسعت عبر القارة الأميركية.

وهناك مقولة شهيرة منسوبة إلى رئيس أركان ونستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية، الجنرال هاستينغ إسماي، عندما علق على الدور الذي لعبته بريطانيا العظمى في تلك الحرب، والتي تقول إن أوروبا القارية اليوم أصبحت «حاملة طائرات أميركية لا تغرق، ولكن على نطاق أعظم كثيراً».

واستثمرت الولايات المتحدة مواردها وسمعتها على نطاق غير مسبوق في أوروبا في عملية بناء جدار «الردع» الذي أبقى الاتحاد السوفييتي تحت السيطرة لمدة نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية حتى انهارت الإمبراطورية الشيوعية في النهاية، وكان استثمار الأموال الأميركية والقوى العاملة الأميركية، وقبل كل شيء الالتزام الأميركي الذي تم التعبير عنه بعبارات لا لبس فيها، هو الذي أبقى الاتحاد السوفييتي تحت السيطرة.

إن التخلي عن هذا الاستثمار اليوم من شأنه أن يقوض ليس فقط حلف شمال الأطلسي ومعه موقف الولايات المتحدة في أوروبا، بل أيضاً مكانة أميركا في القضايا المختلفة حول العالم، لأن الدولة التي لا ترغب في حماية استثماراتها الحيوية لا يمكن أن نتوقع منها أن تضع استثماراتها على «المحك» في مناطق ثانوية وأقل أهمية.

وبعبارة بسيطة إذا فقدت أميركا مصداقيتها في أوروبا فإنها تفقد مصداقيتها في المحيط الهادئ والشرق الأوسط وأماكن أخرى.

النفوذ الأميركي

لذا فقد حان الوقت لإعادة التفكير في الأسباب التي تجعل أوروبا اليوم مهمة لأمن الولايات المتحدة إلى الحد الذي كانت عليه منذ أكثر من قرن من الزمان، وفي حين قد يبدو الأمر غير بديهي لبعض الناس مع استمرار الصين في توسيع جيشها بسرعة وعلى نطاق واسع، يجب أن تكون لها الأولوية في المستقبل.

صحيح أن الحلفاء في حلف شمال الأطلسي بحاجة ماسة إلى إعادة التسليح، والموارد التي تجلبها أوروبا لتحالفها مع الولايات المتحدة، سواء الاقتصادية أو العسكرية، هي مضاعفة للقوة.

وقوة أميركا المجمعة مع القوة الأوروبية لا تعزز النفوذ الأميركي في المحيطين الهندي والهادئ فحسب، بل تسهم أيضاً في الاستقرار الإقليمي في المسارح الرئيسة. إن حفاظ الولايات المتحدة على وجود راسخ في أوروبا لن يعيق بل إنه في واقع الأمر سيسهل قدرة الولايات المتحدة على ردع الصين وهزيمتها إذا لزم الأمر، والقول بأن أوروبا تشكل أهمية مركزية للأمن الأميركي يعني الاعتراف بحقيقة العالم اليوم.

ولابد أن تظل أميركا في أوروبا، ليس من باب العادة بل بسبب مصلحة جيواستراتيجية وأمن قومي واضح، وبعبارة بسيطة لا تستطيع أميركا التعامل مع التحديات الناشئة في آسيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى وبكلفة مقبولة إلا إذا كانت أوروبا حليفاً قوياً. عن «ناينتين فورتي فايف»


استراتيجية الدفاع الجماعي

ساعد حلف شمال الأطلسي في تجنب التكاليف الهائلة، البشرية والاقتصادية، المترتبة على حرب واسعة النطاق من خلال تعزيز مناخ الأمن والقدرة على التنبؤ. والواقع أن أوروبا تمتعت بعصر من السلام والاستقرار غير المسبوق في تاريخها في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ويرجع قدر كبير من هذا النجاح إلى استراتيجية حلف شمال الأطلسي الفعّالة في الدفاع الجماعي، والتي تردع المعتدين المحتملين وتعزز التعاون بين الدول التي كانت تنظر إلى بعضها بعضاً ذات يوم بالشك والعداء.

. ضمان بقاء أوروبا على تحالف وثيق مع أميركا مع الحد من النفوذ الصيني على القارة يشكل الأساس لتوازن القوى العالمي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق