بين اتفاقين... إغراء المقارنة وغوايتها #عاجل - عرب فايف

0 تعليق ارسل طباعة
جو 24 :

كتب: عريب الرنتاوي * 

خمسون يوماً فصلت بين إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان (27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024) وتوقيع اتفاق مماثل في جبهة غزة (17 كانون الثاني/يناير 2025)، كانت كافية للوقوع في غِواية المقارنة بين الاتفاقين وإغرائها، وإطلاق الأحكام، وأحياناً، إطلاق النار على الاتفاق الأول، بالاستناد إلى مزايا الثاني.

بعض ما قيل وكُتب كان موضوعياً وجاداً، استحضر تباين السياقات وتشابهها، بيد أن بعضه الآخر ذهب في اتجاه تصفية الحسابات، والكيد للخصوم والمنافسين، وفي حالات قليلة، تكشّف عن سعي لـ"تقديم أوراق اعتماد" للمرحلة المقبلة، وملء "فراغات قيادية"، قائمة ومحتملة.

إغراء المقارنة مشروع تماماً، بل يندرج في سياق "الطبيعة البشرية" والفضول المعرفي المدفوع بميل غريزي مستدام إلى إجراءات المقارنات والإسقاطات والمقايسات، لكن المقارنات، إن خرجت عن سياقاتها ومراميها المعرفية، تقع في المحظور، وتسقط في فخ "الغِواية": "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى". وأحسب أن صمت المَدافع، وإن كان احتمال كسرها جدران الصوت والصمت ما زال ماثلاً، يغري بفتح بعضٍ من صفحات المراجعة وإعادة تقدير الموقف والتقويم.

أبدأ بالإقرار، مع "المراجعين"، بأن اتفاق غزة جاء فوّاحاً برائحة النصر، أكثر مما جاء عليه اتفاق لبنان، ولا أريد أن أصل إلى ما ذهب إليه آخرون، كالقول مثلاً إن اتفاق لبنان جاء بطعم الهزيمة، وأكتفي هنا بترداد ما قاله عرّاب الاتفاق، الذي لا يمكن لأحد أن يتهمه بالتعاطف مع حزب الله والمقاومة اللبنانية، عاموس هوكستين، في وصفه اتفاق السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر: حزب الله لم يُهزم، بيد أنه لم يعد يشكل "تهديداً استراتيجياً" لـ"إسرائيل"، ولا هو بقادر على تقديم "دعم استراتيجي" إلى نظام الأسد.

كان ذلك قبيل سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر. ربما يكون هذا تقديراً أقرب إلى الدقة في وصف حصيلة جبهة الإسناد ومعركة الدفاع عن لبنان: حزب الله لم ينتصر، لكنه لم يُهزم.

المقارنة بين الاتفاقين لا بدّ من أن تلاحظ جملة فوارق جوهرية، في البيئات والسياق والظروف المحيطة بتوقيع كل منهما، سنكتفي هنا بالحديث عن بعضٍ منها:

الأول: بخلاف حزب الله، حماس أطلقت الطوفان في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بمبادرة هجومية منها، حتى إن وصفتها بأنها معركة دفاعية – استباقية، هي صاحبة القرار بالرصاصة الأولى، وهي من اختار توقيتها، وهي من استفاد من عنصر "المفاجأة الاستراتيجية" ووظّفها على أكمل وجه، قبل أن تنفلت الأمور وتخرج تطورات الميدان والسياسة عن السيطرة وحدود التوقع والخيال.

حزب الله فتح جبهة الإسناد طائعاً لا مرغماً، لكنه لم يُستَشَر في التوقيت، وربما لم يكن على أتم الجاهزية، وهو من قبلُ ومن بعدُ، كان مفتقداً عنصر المفاجأة، ولم تتح له فرصة تحضير حواضنه وقواعده لما ينتظرها من ارتدادات وهزّات.

هنا نفتح قوسين فنتساءل، من باب الدعوة إلى المراجعة والتقويم، عمّا إذا كان قرار "الإسناد المتدرّج"، المحكوم بقواعد اشتباك سابقة ومكرّسة، قراراً صائباً، أم أنه كان يتعين فتح الجبهة على مصراعيها، لتفادي سيناريو "الثور الأبيض الذي أُكل يوم أُكل الثور الأسود"، أو، وهذا أمر يُطرح بقوة، هذه الأيام، لبنانياً بصورة خاصة، الاكتفاء بالإسناد، سياسياً ومعنوياً ولوجستياً، ما أمكن، وعدم الذهاب إلى فتح النار؟

في سياق المراجعة، يتعين الأخذ في الحسبان العواقب والتداعيات لكل خيار من هذه الخيارات الثلاثة، وكيف كانت ستنعكس على وضع الحزب، وصورته ومكانته، ودوره القيادي في لبنان والإقليم، وما التأثيرات التي كانت ستتلقاها بيئته الحاضنة بصورة خاصة، ولبنان والمجتمع اللبناني بصورة عامة. ليست هذه المقالة مخصصة لتناول هذا الموضوع، بيد أن التأشير عليها يبدو أمراً لا يمكن تفاديه.

الثاني: حزب الله فتح جبهة الإسناد، في بيئة سياسية واجتماعية لبنانية وإقليمية غير مواتية. لم يكن قرار فتح النار "شعبياً"، أقله لدى المكونات اللبنانية الأخرى، وربما في بعض الأوساط الشعبية للمكون الشيعي. وزاد في الطين بلّة أن إطالة أمد الحرب لعبت في غير مصلحة المقاومة، لا في لبنان فحسب، بل في فلسطين، وفي مختلف محاور الإسناد كذلك، كما أن بلوغ البربرية الإسرائيلية، المدعومة والمغطّاة أميركياً وأوروبياً، ضاعف فواتير الحرب وتكلفتها الإنسانية، فكان الحزب وقيادته يرزحان تحت وابل من الضغوط.

هنا أيضاً نفتح قوسين لنشير، في سياق المراجعة وإعادة التقويم، إلى سؤال: أثر تورط حزب الله في الأزمة السورية في مكانة الحزب وشعبيته وتماسكه وصلابة دفاعاته الأمنية، في وجه الاختراقات والاستهدافات، ولاسيما بعد كل ما تكشّف من معلومات أعقبت سقوط النظام في دمشق، وتحديداً لجهة حجم الاختراقات الاستخبارية، الغربية والعربية والتركية والروسية (وغيرها)، لقمة الهرم الأمني – العسكري – السياسي في سوريا.

حماس لم تجابه وضعاً كهذا. قاتلت في أوساط شعبها، وبدعم من بيئتها الاجتماعية، وإسناد كاسح من الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده. حتى خصومها المحليون طواهم الطوفان في أضيق الزوايا.

حماس قاتلت احتلالاً وحصاراً جائرين وجاثمين على صدور أهلها، أما في لبنان، فالمعركة كانت معركة إسناد لشقيق، ولم تكن حرب تحرير لوطن محتل أو أجزاء منه. وهذا يفسر، جزئياً على الأقل، سلوك الحزب الميداني، وميله إلى تفادي التصعيد والانضباط لقواعد اشتباك، خرجت "إسرائيل" عليها المرة تلو المرة.

الثالث: حماس فقدت كوكبة من قياداتها السياسية والميدانية الوازنة؛ فقدتهم، عبر مراحل متباعدة، بخلاف الحزب، الذي فقد معظم قادة الصفين الأول والثاني، سياسيين وعسكريين، في فترة زمنية قصيرة، الأمر الذي خلّف فراغاً قيادياً هائلاً.

قيادات حماس متوزعة بين داخل وخارج، بينما قيادة الحزب متمركزة في بيروت وضاحيتها. "إسرائيل" أعدّت العُدة للحرب على الحزب منذ أن انتهت آخر جولة في عام 2006، بصفته التهديد الاستراتيجي الأكبر، في مقابل نظرة إلى حماس وغزة أعمتها الغطرسة والاستعلاء، وضللتها أكبر خديعة استراتيجية، أدارتها حماس بكل كفاءة واقتدار. فجوات القيادة في حماس أمكن تجسيرها ومَلؤها بسرعة، على رغم جسامة الفقد. فجوات القيادة في الحزب لا تزال قائمة، والأمر لم يُحَلّ بملء الفراغات في سلسلة القيادة والسيطرة والتحكم، فهيهات أن يملأ أحدٌ فراغاً خلّفه غياب السيد حسن نصر الله.

الرابع: حماس توافرت على فرصة لانتزاع ورقة سيكون لها أكبر الأثر في تقرير سير المعارك ووجهة الحرب ومآلاتها، كما سيكون لها حضور قوي على موائد التفاوض والوساطات من أجل وقف إطلاق النار، وأعني بها ورقة الأسرى والمحتجزين، الأمر الذي لم يتوافر للحزب في هذه الحرب.

وعلى الرغم من محاولات البعض تقزيم أهمية هذه الورقة، فإن قيادة حماس كانت الأكثر معرفة بأهميتها. وها نحن نرى أثر هذا العامل، ليس بالنسبة إلى شروط الاتفاق وتفاصيل مراحله، بل فيما يتعلق ببنية المجتمع الإسرائيلي وتماسكه، و"العقد الاجتماعي" الذي نظم علاقة المستوطنين بـ"دولتهم"، منذ قيامها، بل قبل قيامها. المقارنة بين الاتفاقين، مع إسقاط أثر هذه الورقة الضاغطة، مقارنة ظالمة، وليست موضوعية.

الخامس: حماس أدارت المفاوضات بالأصالة عن نفسها، والنيابة على سائر فصائل العمل الفلسطيني المقاوم. هذه الحال لم تتوافر للحزب، الذي تفاوض عنه آخرون، من حلفائه ومنافسيه، فضلاً عن المؤسسة الرسمية اللبنانية. لم تكن أولويات الحزب متطابقة بالضرورة مع أولويات الوسطاء والمفاوضين. صحيح أن الحزب قبل، في الظروف التي نعرف، الاتفاق، كما أن وزراءه في الحكومة صادقوا عليه، ولا يمكنه التنصل من المسؤولية عنه، لكن الصحيح، كذلك، أن النتيجة ستتباتين حتماً إن كان المفاوض هو المقاوم ذاته، أو أن أحداً غيره سيتطوع أو سيُطلَب إليه القيام بالدور بالإنابة، حتى إن كان من أقرب المقربين.

السادس: جسامة الكارثة الإنسانية في غزة، ومكانة "المظلومية" الفلسطينية التاريخية، وقوة "السردية" الفلسطينية، ولّدت قوة زخم إقليمية ودولية دافعة في اتجاه الاتفاق.

أما في جبهة الإسناد اللبنانية، فكان التعاطف، دولياً وعربياً، منصرفاً إلى لبنان، "ضحية مقاومته"، كما يقال، وليس إلى حزب الله. صحيح أن جزءاً من حركة التضامن العالمي مع الفلسطينيين لم يكن موجَّهاً إلى حماس والجهاد، لكن الصحيح أيضاً أن فصول البسالة، التي سطرتها المقاومة، كانت دائماً تصب لمصلحتها، بصفتها حركة تحرر، ومقاتلين من أجل الحرية، أقله على مستوى الشعوب وبعض الحكومات. هذه الحالة لم تكن متوافرة للبنان، ولا لحزب الله، حيث التعاطف كان مشروطاً بانصياع الحزب لمقتضيات الدولة، أمّا في فلسطين، فانصبّ التعاطف على المطالبة بتمكين الفلسطينيين من دولتهم، وليست سوى "إسرائيل: من يقف عقبة كأداء في طريق تجسدها.

المقارنة بين الاتفاقين جائزة حكماً، بل ضرورية لفهم تباين السياقات وتشابهاتها، لكنها تصبح اصطياداً في المياه العكرة، وتصفية حسابات وتسوية خصومات، إن هي تجاهلت تباين الظروف المحيطة بكل منهما. تصبح "تغميساً خارج الصحن"، أو من باب "لزوم ما لا يلزم".

* الكاتب مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق